الشيخ سعيد محمد كعباش ... المفسر والأديب
هناك بالجنوب الجزائري الكبير وفي أم قرى مزاب ولد الطفل محمد سعيد كعباش عام 1929، لما بلغ سن الفطام تجرع ذل اليتم رضيعا، فقد أباه فعانى الحرمان وذاق شظف العيش····وفي ظروف استثنائية صعبة نشأ وتربى وبين كتاتيب تاجنينت (العطف) بغرداية زاول تعليمه كباقي صبيان القرية، وفي أحضان الشيخ بيوض بمعهد الحياة ترعرع ونما فكره حيث زرعت فيه بذرة حب العلم والشغف به، وفي حلقات الزيتونة أين صب في قلبه الشيخ الطاهر بن عاشور قدرات التفسير فمن هناك جاءت بدايات ميلاد أديب وعالم ومفسر فأصبح فيما بعد ذا شأن عظيم فذاع صيته في مزاب والجزائر وصار اليوم أحد كبار المفسرين ومن علماء الأمة ملما بتفاصيل الشريعة···هكذا كانت رعاية الله لطفل كان قدره أن يعيش اليتم والحرمان···
هو محمد بن ابراهيم سعيد المعروف بـ(كعباش)، من مواليد بلدية العطف ولاية غرداية، من الجمهورية الجزائرية، وآل سعيد فرع أصيل من عشيرة أولاد باكّة في بلدة العطف إحدى قرى وادي مزاب السبع، وتسمى باللغة المحلية (تـجنينت).
أبصر نور الحياة خلال سنة 1929م في حضن أبوين كريمين هما: سعيد إبراهيم بن باحمد، وبهون شيخة بنت الحاج محمد؛ توفي والده وتركه يتيماً فقيراً لا يزيد عمره عن سنتين، وليس معه إلاَّ أختان، توفّيت إحداهما فأصبح وحيد أمّه وقرّة عين لها، فاعتنت بتربيته على حبِّ الله ورسوله وعلى حفظ كتاب الله في سنٍّ مبكّرة، وقد وهبه الله ذاكرة قويّة وذكاءً لامعاً، فدفعته إلى كُتّاب القرية ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة؛ وكان أبرز معلميه آنذاك شيخه المرحوم الحاج ابراهيم محمد بن بهون الذي ترك في نفسه أثراً قوياً وحبا غامراً للعلم والمعرفة.
ولم يكن كُتّابُ قريته ليُقْنِع طموحه في التّعلم، فارتحل إلى معهد الحياة العامر بالقرارة عند الشيخ الإمام إبراهيم بن عمر بيّوض، ومكث فيه خمس سنوات من عام 1945 إلى 1950م، وانتقل بعدها إلى تونس الخضراء، حيث التحق بالجامع الزيتوني أين درس علوم العربية والشريعة، وبالمعهد الخلدوني أين درس العلوم التطبيقية، وذلك إلى غاية سنة 1954.
وقد تتلمذ هنالك على يد علماء تونس الفطاحل من أمثال: الشيخ الفاضل بن عاشور، والشيخ محمد الزغواني في التفسير، والشيخ البشير النيفر في أحكام القرآن، والشيخ اللقاني في مقاصد الشريعة، والشيخ أحمد بن ميلاد في أصول الفقه، وغيرهم.
ثم انتسب لاحقاً إلى جامعة الجزائر وذلك في أوائل السبعينيات أين حصل على شهادة الليسانس في اللغة والأدب العربي سنة 1972.
المسيرة العلمية والاجتماعية والسياسية.
بدأ العمل في مجال التربية والتعليم أستاذاً ومديراً في القطاع الدّيني الحرّ في فترة الاستعمار الفرنسي، ثم في التعليم الرسمي بعد الاستقلال الوطني حتى تقاعد عن العمل سنة 1990م.
انخرط عضواً رسميّاً في حلقة العزابة للمسجد الجامع بالعطف في سنة 1958م، ثم عيّنته الحلقة إماماً ومرشداً في سنة 1970م، وهو ما يزال يقوم بمهمّته النّبيلة في الإصلاح الديني والاجتماعي نصحاً وإرشاداً وتجليةً لمعاني كتاب الله وسنّة رسوله ﷺ على منبر المسجد، بعد أن حدا بصفوف الأجيال على مقاعد الدّراسة لما يقرب من أربعين سنة في مسيرة مهنية متواصلة لم تنقطع بتاتاً عن الخط الذي ارتضاه مبدأً ومنهجاً، وذلك بفضل الله تعالى وتوفيقه.
بداية من سنة 1972 بدأ ينتقي لجمهور الآباء والأمهات من عمّار المسجد العتيق بعض السّور القصار لتفسيرها وبيان فضلها ومعانيها، والتي يؤدي بها الجمهور صلواته، ثم تدرّج بعد ذلك إلى تفسير السّور القرآنية التي تتلى في المناسبات المختلفة كسورتي "ياسين" و"الأنعام"؛ وبعد إتمام تفسير هذه السّور شرع بعون الله وتأييده في تفسير القرآن الكريم من سورة الفاتحة نزولاً إلى سورة الناس وذلك في دروس منتظمة إلقاءً وتحريراً من سنة 1985، وسمّاه "نفحات الرحمن في رياض القرآن"، إلى أن أتمّ - بعون الله وتوفيقه - تفسير سورة الناس يوم الجمعة 01 جمادى الأولى 1436هـ الموافق 20 من فبراير 2015.
ويقع هذا التفسير النفيس في أربعة عشر مجلداً، مشفوعة بفهارس فنية متنوعة، وله بالإضافة إلى ذلك أعمال أدبية وفكرية عديدة مطبوعة ومخطوطة، وهي فيما يقرب العشرين مؤلفاً بين التفسير وشرح الحديث والـخُطب والفتاوى والتراجم والرسائل والأشعار...
في سنة 2004 أنشأ مكتبته الخاصة "مكتبة التوفيق" المتنوعة المصادر والمراجع، ومن مهام هذه المكتبة أيضاً؛ احتضانها للُجنة الفتوى للبلدة، والتي يترأسها فضيلته منذ انبعاثها سنة 2002، وهي تجتمع كلّ أربعاء للنظر في أسئلة الجمهور والرد على استفساراتهم الشرعيّة المختلفة.
وقد أسهم الشيخ بقسطٍ وافرٍ من التّضحية والجهاد، وهو من المجاهدين الأوائل بالبلدة، وممن حافظوا على المقومات الأساسية للشخصية الوطنية من خلال عمله النضالي في المجلس البلدي السّري للمنطقة الخامسة للولاية السادسة التاريخية، معتزٌّ بانتمائه إلى منظمة المجاهدين وإلى صفوف جبهة التحرير الوطني قبل وأثناء ثورة التحرير المجيدة؛ كما تقلّد بعد الاستقلال مناصب إدارية محلية لمدة عشر سنوات، ويتشرّف بعضوية منظمة المجاهدين دون منّ ولا غرور، فضلاً عن تقلده لمسؤولية تمثيل بلدته في كلّ من مجلسي/ الشيخ عمي سعيد (الهيئة العليا لإباضية الجزائر)، والشيخ باعبد الرحمن الكرثي (الهيئة العليا لأعيان وادي مزاب)، وتربطه إلى جانب ذلك علاقات ودّ وإخاء مع علماء جزائريين عديدين وعلماء من مختلف أقطار العالم الإسلامي.
ونختم هذه النبذة الوجيزة عن حياة شيخنا الفاضل ومسيرته المباركة بما ختم به ترجمته لنفسه في كتابه "جيل النهضة والإصلاح"، حيث قال: "...قد حملت لبلادي بين جوانحي منذ نعومة أظفاري حبا غامرا، وأملا فياضا أن أمنحه من جهدي وعَرَقي ما يُثبت أركانه، ويعلي بنيانه، ويرفع شأنه، ورجائي في الله أنني وفّيت بما تعهّدت، وقمت بما استطعت، ويعلم الله أنني ما طلبت زعامة، ولا انتظرت شكرا ومحمدة، بل كلّ ما أرجوه من أبنائي ورفاقي هو شرف الأحدوثة، وكرم الإنصاف، وحُسن الذّكر، تحقيقاً لِما تمثّلتُ به من قول الشاعر:
وما خاب بين الله والناس عامل له في التقى أو في المحامد سوقُ.
فطوبى لهذا العالم العامل؛ الذي آمن برسالته في الوجود فأخلص في أدائها مُـحتسباً أجره؛ وتقبّل منه جهاده وتضحياته في سبيل أمته ووطنه؛ وبارك في أنفاسه؛ وقيّض للأمة من يقوم مقامه؛ آمين.
المصادر :
موقع فضيلة الشيخ كعباش
لا يوجد تعليقات