يوميات طالب... قصص قصيرة
يوميات طالب... قصص قصيرة
هاجس الامتحانات..
...سمعت وَقْعَ أقدامه على بعد خطوات خارج الصف.. ومع كلّ خطوة يخطوها كنت أشعر بالخطر يلُفُّني من كلّ جانب.. تضاعفت نبضات قلبي، حتى صار لها صوتا أسمعه أو خُيِّل إليّ.. دخل الأستاذ المراقب وعيني على ما يحمل بين يديه.. ألقى التحيّة والسلام؛ جال بنظره على أعيننا فخيّم الهدوء وخفُت الكلام، ممّا صعّد من رهبة الموقف.. تحرّك نحو المكتب، وعليه وضع حزمة أوراق الأسئلة..فتّشت بين قسمات وجهه عن ابتسامة أُسكِت بها شبح الخوف بداخلي فلم أعثر عليها، فثَبُت عندي بما يشبه اليقين أنّ الامتحان صعب والأسئلة معقّدة..
حاولت وقتها جاهدا استذكار سيل النصائح والإرشادات التي طالما تردّدت على مسامعي في مثل هذه المناسبات، لكنّ شيئا منها لم يفدني.. امتلكتني دهشة ضاعفت من توتّري وقلقي.. كيف بنصائحَ ثمينةٍ كالتي أحفظها ولا أكاد أُبِينُها لم تَقْوَ على أن تبدّد شيئا من توجّسي؟ أفيها الخلل أم في قائلها، أم في طريقة قولها أم فِيَّ أنا؟...
لم أصحُ من دوّامة الدهشة تلك إلاّ على رنين الجرس يعلن عن بدايةٍ لنهاية زمن الامتحان.. فزُلزِلت على إثرها زلزالا عظيما.
هفا الأستاذ المراقب نحو أوراق الأسئلة ينشرها فينا؛ فخُيِّل إليَّ من خِيفَتِي ولهفته أنّه ينوي بنا الشرّ، وأنّه يمدّ كلّ واحد منّا نصيبه المحتوم من العذاب..، فقلت في نفسي التي تَلِفَت: "مالي، وما لهذه الأوراق الملعونة.. ألا يوجد سبيل لاختبارنا إلا أن يُعيِّشونا هذه اللحظات المشؤومة؟".. لم أُنْهِ حديث النفس هذا حتّى استلمت نصيبي من العذاب، فتمنّيت وقتها لو أنّني في حلم.. وأنّ أحدا مّا من آل بيتي سيوقظني من هذا الكابوس المرعب لصلاة الفجر.. لكن هيهات.. إذ لا مفرّ من مواجهة مصيري مع ورقة الأسئلة هذه...
كان الامتحان في الرياضيات التي أحبّها وأعشقها.. أرسلت أولى نظراتي الحائرة أجسّ نوعيّة الأسئلة وأستطلع درجة صعوبتها _وقد أخذ منّي الارتباك كلّ مأخذ_ فإذا بها طلاسم غامضة يعجز الخوارزميّ نفسه عن فكّها...
لم أكن من النوع الذي يلجأ إلى طرق ملتوية ليثري رصيده بمجهود غيره، لا ولا كنت من أولائك الذين يرضون بالاستسلام.. لم يعوزّني الجدّ ولا النباهة، بيد أنّ نفسي أمام هاجس الامتحانات تصغُر وتضعُف.. وأكثر عبارة تهدّدني هو قولهم: "لا تخف من الامتحانات" وكنت إذا سمعتها أسْرَرْت في نفسي أنّه لولا وجود ما يخيف لما طُلب إليَّ ألاّ أخاف.. وقد يؤدّي الإغراق في الطَّمْأَنَة أحيانا إلى زعزعتها.
بينما أنا على حالي تلك ارتفعت أصوات من حولي من الطلبة بالدعاء: ''اللهم لا سهل إلاّ ما جعلته سهلا...'' وكنت حينها كغريق في بحر لُجِّيٍّ لم يفقد الأمل بعد في النجاة؛ فكان هذا الدعاء طوقا اجتذبني من بحر هواجسي إلى شاطئ الطمأنينة.. لم أنبث ببنت شفة..، إلا أنّ معاني الدعاء نفُذت ولامست سويداء قلبي؛ وقد كنت قبلا أرتّل كلماته كالببّغاء... لكن لما استحضرت معانيها بصدق وإخلاص أحسست بها تعانقني وتحتضنني بردا وسلاما.. ففرج الله على نفسي وأعصابي...
بقلم الأستاذ: يحي داودي
لا يوجد تعليقات