موائد رمضان الإيمانية
عندما يتبادر إلى ذهننا قدوم ضيف ليحلّ بنا ... فحري بنا أن نجعل نصب أعيننا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه
فيبدأ عالم فكرنا الواعي واللاواعي بتحضير قوائم ما يمكن أن نستقبل به ذلكم الضيف ...حتى نستوفي له حقّ الضيافة ونبلغ بها المقصد في الدّين ،وأعلاه رضا الله تعالى
فبحسب القادم ومكانة الضيف تتجلى عظمة التحضير والتهيئة ... فماذا لو كان ( بدون ذكر أمثلة و أصناف الضيوف ) القادم شهر رمضان المبارك الذي فضّله الله على سائر الشهور وفيه ليلة فضّلها الله تعالى على سائر الليالي وقد خصّت به أمة قيل عنها أنها خير أمة أخرجت للناس ... كل هذه الفضائل بسبب الحدث الأعظم على الإطلاق والذي تجلّى فيه وهو نزول كلام الله الكريم والقرآن العظيم.
كان مما ذكر لنا عن الرّعيل الأول ومن أدرك النبوة في فجرها أنهم كانوا يستبقون قدوم الضيف بأشهر وهم يدعون الله تعالى أن يبارك لهم فيما هم فيه ويبلغهم رمضان ... وإذا انقضى تجدهم يخصصون لدعائهم بضعة أشهر لاحقة يسألونه تعالى قبول ما قدموا من قربات فيه ، وتكون حينها طاقة إيمانهم في أوج نشاطها بما شحنوه فيه من استغلال سوقه الرابحة والفضائل التي لا تأتي إلا في أيامه الكريمة ... ولم نسمع يوما أنهم خصصوا له جانبا ليولوا فيه أهمية ولو بنسبة 99.99 % للطعام أو للشراب أو لغيرهما من الأمور المستحدثة والتي بات الشهر الفضيل بعظمة القرآن في زماننا لا يخطر ببال أحدهم إلا ويكون له كرابط ذهني يذكره بما يجب له وعليه أن يوفره فيه من مؤن الطعام والشراب لأهميته القصوى (في نظره طبعا) ، فنجد الكثير من المبادرين لاستقبال هذا الضيف التّعبدي الإلهي القرآني يشتغلون باقتناء كل ما يمكن أن تصل إليه أيديهم من المأكولات والمؤن ، باذلين في ذلك الغالي والنفيس ولو على حساب أرواحهم ، لإعداد أطباق لا تعدّ ولا تحصى ( فيها المحشي والمقلي والمفوّر و المكوّر ...) والتي أغلبها - إن لم نقل كلها - تضيع في سلال المهملات ، ونجدها تزيد للجسم داءً وعلّة مخالفين قوله صلى الله عليه وسلم (صوموا تصحّوا) ومخالفين بذلك الهدي النبوي في كيفية التعامل مع عظمة الضيف الزائر.
وحري بالمؤمن الذي مِنْ وصف رسول العزة له إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يضيع وقته في تزيين مائدته بأطباق تُستبنّ لذّتها للحظات ويذهب بريقها في ويبقى أثرها بالسلب عل صحة الإنسان وماله ، بل كان يجب عليه إن كان فطنا مدركا وكيّسا أن يهتم بتزيين مائدته الرمضانية بالأطباق الإيمانية التي لايزول بريقها ولا يذهب أثرها بل يبقى محفوظا له عند رب العزة وتزداد به آخرته نورا على نور بفضل ما قدّمه
وهذه بعض الألوان التي يجب على المؤمن تحضيرها لينال الفضل العظيم للشهر:
أولا : أهمّ لون وطبق إيماني على الإطلاق هو القرآن الكريم ، فبعظمته تميّز وتشرّف الشّهر ، ألا ينبغي أن ندرك شيئا من هذا الشرف والكرم والتميز ؟ فنولي عناية خاصة ومبالغا فيها للقرآن الكريم بأن نزيد من أوقات قراءته تعبّدا لله وبالصورة التي أرادها الله لنا فيه من تلاوة وتدبّر و تعليم وعمل وتطبيق لما جاء فيه من أحكام وتبليغها لغيرنا ، وذلك بتخصيص أوراد إضافية لما كنا نخصصه خارج رمضان ومحاولة ختمه وتغليب الانشغال به على جميع الملهيات المفتنة كالهاتف والتلفاز و الانترنت (إن لم تكن لحاجة ملحّة آنية لطلب العلم) وسوق السهرات وغيرها من الأشياء التي يُغتال في الوقت لأتفه الأسباب
ثانيا : التنظيف ( من باب التّخلّي للتّحلّي): فنجد الكثير من الناس يقلبون بيوتهم رأسا على عقب لتنظيفها استقبالا الضيف الكريم ... لا أعيب ما يفعلون ، لكن أليس من الواجب والضرورة تنظيف أدران النّفوس لتستقبل فضائل ونسمات هذا الشهر ؟ بكفّ اللسان والآذان والوجدان أياما قبل حلوله لتكون أجسادنا وقلوبنا وأنفسنا أنقى ما يجب أن تكون لتلقّي هذه الرحمات الموسمية ؟
ثالثا : النية الخالصة لتهذيب النّفس ، فالشهر الفضيل الزائر أفضل مدرسة لذلك لكي تتعلم معنى الصبر والقناعة والإيثار و الجود والكرم وتخليصها من أدران الطمع والجشع و الإسراف والتقتير والشّحّ ، وتعويد الجوارح على فضائل الأخلاق و كفّها عن السوء بعد أن كانت شبه مطلقة تغيب عنها الرقابة الذاتية والوازع الديني والتي عادة ما تكون خارج رمضان.
رابعا : وللصّلاة مكانة لا تخفى على اللبيب : طبعا دون أن نغفل عن حقيقة أن مِن أحب الأعمال إلى الله تعالى الصلاة في وقتها ويقصد بها الفريضة ، وفي جماعة ، أمّا ما كنت أردت الإشارة إليه فهو القربات التي سنّها الرسول صلى الله عليه وسلم كالقيام وتلكم الركعات والصّلوات التي لا يخفى علينا أمر أجرها و المكانة التي تبلغنا إياها للتقرب من الله تعالى ومنها قيام الليل والتهجّد و الضّحى والسنن الرواتب وركعات الشكر والحمد والاستخارة والحاجة والتي يتضاعف أجرها في هذه السوق الرابحة الموسمية التي حلّت بنا .
خامسا : أعمال البرّ و الإحسان، بجميع أنواعها ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : برّ الوالدين وصلة الرّحم والتّودد إلى الأهل و تنفيذ وصية الله تعالى بالجار والإنفاق في سبيل الله وعلى من تجب فيهم الصّدقة وبسخاء وكرم إضافيين وبتفعيل أحد القوانين الإلهية وهو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إكرام الضّيف وقول الخير والحسن من الكلام والعمل على هداية الخلق ودفع النفس إلى مساعدة الغير بالوقوف معهم في الحق وتنفيس كربهم وقضاء حوائجهم .... وغيرها من الفضائل التي لو علم ابن آدم حقيقتها وتجلى أجرها لما فرّط في حقها مقابل تصرّفاته الشّهوانية التي يظهرها في هذا الشهر الفضيل ليبني بها الجسد عوض أن يجعل الشهر وقومه فرصة ليصون بها الجسد والرّوح.
لا يوجد تعليقات