علم التفسير .. بين التقليد والتجديد
كلمات من نور
من الاستاذ: قراس منير
مادة: الأدب العربي.
وحدة: ثانوية المنار
العنوان: علم التفسير بين التقليد والتجديد
التفسير هو علمٌ يُعنَى بشرح آيات القرآن الكريم، واستلهام الحِكَم والأخبار منه، وهو في الحقيقة متفرعٌ من عدة علوم، فكلّ علم يخدم كتاب الله تعالى ويمكن أن يُستعانَ به في فهم القرآن الكريم فإن التفسير ليس في معزل عنه، بل يستمدّ منه آلتَه وأدواته التي من خلالها يستطيع تفسير كلام الله عز وجل...
لذلك من عادة التفاسير أنها تتنوع بتنوع مؤلفيها، فإن كان مؤلفها معتمدا في تفسيره على علوم اللغة اعتمادا كبيرا كان تفسيره للقرآن الكريم لغويا، وإن كان معتمدا على الأحاديث والسيرة والأخبار والآثار كان تفسيره نَقليا، وإذا كان اعتماده على أصول الفقه والمنطق كان تفسيره عقليا، وإن كان معتمدا على العلوم الفيزيائية والتكنولوجية وغيرها من العلوم الحديثة وحاول إبراز الجانب العلمي في القرآن كان تفسيره علميا... وهكذا
علم التفسير علم يهتمّ بشرح آيات القرآن الكريم بهدف تقريب معانيها للناس، حتى يبقى الناس على صلة دائمة بالقرآن، وحتى يتأثروا بما جاء فيه من الحكم والمواعظ والدلائل، وما دام القرآن موجّها للناس أجمعين في كافة الأزمنة والعصور، فلا بدّ من أناس يتفرغون لهذا العمل الجليل، ويُبرزوا مكنونات القرآن الكريم ويعرضوها على الناس حتى تبقى صلتهم وطيدة بكلام ربهم...
نتيجة لهاتين المقدمتين فإن خدمة علم التفسير لا بد أن تكون متجددة في كل عصر، بما يلائم عقول ذلك العصر وأفكارهم وواقعهم، فلا بد في كل عصر من أن يقوم أناس بتفسير كلام الله للناس وتبيين مراد الله به، ولا يُكتَفَى فيه بالتفاسير السابقة -على كثرتها-، لأنها كُتِبَتْ ملائمة في صياغتها ولغتها لعقول ذلك العصر وأفكارهم، ومُجيبةً على إشكالاتهم الطارئة عليهم بحسب ما يعيشون فيه، أما الآن فلا بد من إعادة تفسير القرآن بلغة هذا العصر، وبإسقاطات آيات القرآن على إشكالات هذا العصر، وبما يلائم أفهام شباب العصر...
لكنْ... هل يُقالُ إن التفاسير القديمة صارت الآن منتهى الصلاحية...
لا يُقالُ هذا... لأن هذه التفاسير -وإن كان ظاهرُها أنها لا تجيب عن إشكالات هذا العصر، وربما صيغَت بلغة صعبة على الفهم....أو....- لكنّها تظلُّ مصادرَ مهمةً يرجع إليها المتخصص في علم التفسير، حتى يأخذ منها المادة الخام، التي يحاول تبسيطها وبَلورتها وتكييفها مع ما يلائم حاجات العصر ووقائعه...
وهذا يكون في كل العلوم... فلو أتيتَ إلى الرياضيات القديمة، والمؤلفات التي كُتبًت في تلك العصور، وقرأتَها بلغة رياضيات هذا الوقت، ستظن أن تلك الكتب القديمة قد فقدت صلاحيتها وصارت لا يُستنفَع بها الآن...
لكنَّ نظرتكَ هذه إليها لكونكَ غير متخصص في الرياضيات...
أما المتخصص في الرياضيات فيراها مادةً خام لا بد من الرجوع إليها، بل لا بد من الاستناد إليها لإبداع قواعد جديدة، وحل مسائل جديدة، لأن الكثير من المسائل الجديدة نجدُ لها أصولا في المسائل القديمة، ونجد لها قواعد في الكتب القديمة، ويمكن أن نستفيد منها في حل الإشكالات اليوم... لأن العلم تراكمي، فلا تظن أن الرياضيات قد تطورت اليوم بسبب عقول هذا العصر فقط... بل ساهم في تطويرها مئات العقول السابقة... بل ولا يمكن زيادة تطويرها إلا بالاستناد إلى الأسس التي أسسها الأقدمون، وبالرجوع إلى ما كتبه الأقدمون لمحاولة البناء عليه... لأن العلم الرصين هو ما كان بناء على ما سبق... وليس هدمًا لما سبق ومحاولة بناءٍ جديد، وإلا لن يتطور العلم أبدا، وستكون البظاية في كل عصر من الصفر، فسيبقى دائما يرجع إلى الصفر... أما إذا كان بنائيا وتراكميا وقد ساهمت في إعلائه عقول كثيرة فهو لا شك سيكون أثبت وأشد قِوامًا...
ونفس الأمر يقال في علم التفسير... فالمفسر اليوم لا بد له أن يعود للتفاسير القديمة حتى يستفيد منها، ويحاول تكييفها بحسب هذا العصر ...
أما الذين يحاولون تفسير القرآن دون الرجوع إلى الجهود العظيمة السابقة، فهو يُعارض قاعدة لا بد للعلم أن يسير وِفقَها، وهي أنه بنائي تراكمي...
فهو يحاول بهذا أن يحتكر العلم على نفسه ويدّعي -بطريق غير مباشر- أنه وحده المُصيبُ وكل مَن سبقه مُخطئ... لذلك نرى كلَّ مَن يسلك هذا السبيل يسقط سقطات سحيقة، ويتخبط في تفسيره تخبطات عجيبة، وهناك أمثلة كثيرة: محمد اركون، عدنان الرفاعي، الكيالي، محمد الفايد ...إلخ
وكما أن العالِمَ في الفيزياء الحديثة لا يستطيع فهمها حقّ الفهم، والتعمق فيها وابتكار نظريات جديدة إلا بالرجوع إلى الفيزياء القديمة والنظريات القديمة، فنفس الشيء يُقال في علم التفسير، بل وفي كل العلوم... والله تعالى أعلم
يوم الاثنين: 19/06/2023م
لا يوجد تعليقات