شريفة القرآن... اللغة العربية
شريفة القرآن... اللغة العربية
أ/ حاجي سمية
يقول ابن جنّي أبو الفتح عثمان في كتابه الخصائص: " اللغة هي عبارة المتكلم عن أغراضهم".
تعتبر اللغة الروح المعبرة للبشر كافة مهما تنوعت ألسنتهم لأنها تعبر عن احتياجاتهم وتنقل خبرتهم ومعارفهم إلى الأجيال اللاحقة، وقد عرفت تطورا منذ وجود الإنسان الأول على ظهر الأرض، إذ ابتكر لنفسه الرموز من إشارات وإيماءات ثم تحولت إلى رسوم ونقوش و إلى خط وكتابة، بغية تبليغ مقصده إلى غيره، وتسهيل عملية التواصل بالإضافة إلى حفظ عاداته وتقاليده، ولذلك كانت اللغة هي ترجمان الأمة ولسان حالها وحصيلة تراثها، هي الميزة التي تعبر عن الأنا أي الهوية والشخصية، لتصبح خاصية جميلة تتفرد بها كل أمة على وجه الأرض.
ومنه كانت اللغة العربية، شريفة القرآن ونعمة من الله تعالى إلينا، أنطقنا بلغة سامية الحروف من بلاد الرافدين، هي اللغة التي خط بها سيدنا إدريس القلم بل حرّف الخط فسُمّي الحرف حرفا، لغة بليغة المعاني ، تجاوزت العقل إلى ما وراءه، الغنية بالألفاظ، والمتجددة مع الزمن بآلية الاشتقاق، تطلق للفكر العنان، إنّها المعجزة التي نزل بها القرآن الكريم، هي الكنز الغني بالبيان و الاستعارات والكنايات والسهلة بمحسّناتها البديعية التي تضفي على اللسان حلاوة وطراوة وفي الأذن نغما وطربا يسافر بالروح إلى عوالم أخرى.
لغة محفوظة بعناية إلهية، ولعل الله اختار قريشا لتكون حاملة لهذا اللواء، فأقامت قبل مجيء الإسلام بسبعين سنة سوقا للشعر الفصيح، تتخير أجوده وأفضله وتميزه مع قبائل عربية في مناظرات ومبارزات شعرية لأفصح الشعراء، وهو سوق "عكاظ" سيده "النابغة الذبياني" مع "الخنساء"، فكان الشعراء يتباهون بمعلقاتهم على صدورهم خاصة بعد مواسم الحج. حتى أنزل الله القرآن بلغة عربية أذهلت العقول فقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم أنى له هذا الكلام ؟... لا يمله قارئه إذا استرسل ، ولا سامعه إذا تأمل...
إنها لغة الأقوياء، وديوان الحِكم وجوهر الكلم، يقول عنها البشير الابراهيمي: "ترجمان الحضارات وهادية العقل الضال إلى أمور الحكمة، مستودع آداب الشرق، وملتقى التيارات الفكرية"، لغة قطعت العالم دون جواز سفر ما يرشحها للسيطرة والتمكن، إنها أعجوبة الزمان.
إننا اليوم مخيرون من الله تعالى لنكون أساتذة معلمين ومؤدبين للبيان باللغة العربية، فالعربية علم أدناها الخطابة، فجاء منها في الجاهلية "الأديب" من مأدبة الطعام أي الذي يلقي أحسنه وهو الكريم الذي يكرم ويقصد به المدح والهجاء والرثاء، ثم في عصر صدر الإسلام يراد بها "الاستقامة" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أدّبني ربي فأحسن تأديبي"، وفي العصر الأموي يراد بها "العلم"، أما في العصر العباسي اتخذت منحى آخر من الشعر والموسيقى والفنون التشكيلية فجاء البحتري وأبو تمام ثم المتنبي والمعري، إلى العصر الحديث مع العقاد وبدر شاكر السياب والبيّاتي والماغوط ومي زيادة، إلى أن دخلت عالما آخر وهو الرواية النثرية المطولة، فبرز كل من طه حسين وإحسان عبد القدوس وشوقي والطاهر وطار وغيرهم من الروائيين الذين حملوا على عاتقهم الكتابة والتعبير باللغة العربية... شريفة القرآن.
لا يوجد تعليقات