عبرات أمّ
على ضفافِ نهرٍ بإحدى القرى البعيدة كانت تجلسُ عجوزٌ تتأمّل الزَّهرَ المنسَّق و مياهَ النَّهر العذبة الّتي تُداعبُ قَدمَيها في أناةٍ و تعكسُ صورتَهَا البائسة بتموّجات سبَّبتها نسمات باردة .....حيث كانت تسترجِعُ ذِكرى اِبنِها "علي" الذي غَاب عنها منذ سِنين جرَّاء تورُّطِه في إحدى الآفات التي فتكَتت بالعديد من الشباب .
لقد كان "علي" شابّا تبدُو عليه سِمات النُّبلِ و نقَاء القَلب والعَقل ولم يُسمعْ ولمْ يُر منه إلَّا الخير. نشأَ في قرية تُعرفُ بالصفاء و النقاوة، أهلها فُطِروا على الطّيبة و الإحسان و كان "علي" أنقاهم خُلُقا و سيرةً .... إلى أنْ تعرَّفَ على ثُلّة من الشّباب الّذين قَدِمُوا من المدينة محمّلين ببعض من شوائبها، فاختلَطَ بهم "علي" في مُختلَف المُعامَلَات الاجتماعية و التَّعليميّة بالمختصر خالطهم فاكتسب صفاتهم وشيمَهم و كما يُقال "الصّاحب ساحبٌ" فمن اليوم الذي داعبت أنامله السيجارة و تلذّذ بها لم يعُد يطِق مفارقتها لا ليلا و لا نهارا، رغم مُعارضَة أمّه و نُصحِها له –مِرارا و تكرارا- بالتَّخلَي عنها مُقرِنةً كلامَها بالآية الكريمة (ولا تُلقوا بأيديكم إلى التّهلكة) .وما زاد الطّين بلّة و حطّم قلب تلك الأمّ الشامخة سمعة "علي" في القرية الّتي باتتْ تَسُوءُ يوما بعد يوم حتى عُرِف بالفساد و بالسوء و العربدة .
مرّتْ الأيّام و الأشهر و السّنون سريعا و "علي" على حاله غارق في المنكرات غير آبهِ بنصح أمّه و توجّعها من أجله ، و طفِقت الأسقام تهاجمه من كلّ حدب و صوب بعد أنّ ضعُفت مناعته و فقدَ صحّتهُ بلغت التّراق و قيل من راق، فلم يستيقظ من غفلته تلك إلا لما أغمض جفنه و سكنتْ يده وهو ممسكُ بالسّيجارة اللّعينة.
ذرفتْ العجوز دمعة شعرت بحرارتها على خدّها حينما تراءت لها لحظة فراق ولدها لكن سرعان ما جفّفتها الرياح مثلما جفّفتْ الحياة جِراحَها وها هي الآن تُقاوم حُزنَها و تكمل حياتها التي أحرقها عود الثقاب مرّتين ؛مرّة حينما أفقدتها وليدها فلذة كبدها، ومرّة أخرى عندما تستذكر كلام الناس و سوء الذكريات التي بقيت راسخة في أذهان الآخرين عن اِبنها الذي كان وردة عبثَ بها رفاقُ السوء حتى غدتْ رمادا.
لا يوجد تعليقات