السعادة الأبدية
يقول سيجموند فرويد: "قال لي صديقي تزوّج وأنجب طفلا وأحبّ عائلتك عندها سوف تخشى أن تكسر بخاطرهم وسوف يصبح لحياتك معنى"، لكن، هل يقبل الإنسان في النّهاية بهكذا معنى؟
من أجل ذلك يحاول كلّ فرد منذ فجر التّاريخ الإجابة على معنى كلّ هذا، لماذا علينا المواصلة في هذه الحياة؟ ومن ثمّ كيف لنا أن نواصلها بإيمان وشغف؟
بدايةً، ما معنى كلمة المعنى في عبارة "معنى الحياة"؟ عادة تعبّر هذه الكلمة عن المعنى اللّغوي وعن معنى الكلمات، لكن ليس هذا ما نقصده عندما نبحث عن معنى الحياة، إذا كنّا بضع كلمات في نصوص كونية فسيكون من المثير أن نعرف معناها، لكنّ الجواب لن يكون له فحوى حقيقي لنا.
يمكننا أن نحرز تقدّما إذا انتقلنا من الكلمات التي تشكّل هذا السّؤال إلى السّياقات والأوقات التي تشعرنا أنّنا مجبرون وبحاجة ماسّة إلى طرح هذا السّؤال ومن ثمّ الإجابة عليه.
في أوقات المعاناة، اليأس والفراغ الرّوحي، عندما نواجه الموت وفقدان الأحبّة... عندها فقط نبحث عن حقيقة جوهريّة بإمكانها تفسير أسوء الأمور بشكل مقبول يمنحنا الاطمئنان على أمور مثل الموت والخسارة، المعاناة والظّلم...ما يقدّم لنا أملا بالخلاص وقبولا للشّر والسّوء الظّاهر في الحياة.
عند الإجابة على هذا السّؤال تنشأ أصناف شتّى من الأفكار والفلسفات
والإيديولوجيات، تمتدّ وتتشكّل على أقطاب، منها ما هو إلهي كوجهة نظر الدّين ومنها ما هو غير إلهي كوجهة النّظر غير مؤمنة بالدّين بتاتا أو وجهة النّظر البوذيّة.
إنّ ما يميّز التّأمّل البوذيّ هو إيمانه أن انبثاق التّوازن الرّوحي والسّكينة راجع إلى إدراك طبيعة الأمور مع إدراك أهميّة الذّات، لكن... أليس التّصالح من الطّبيعة والحياة من خلال التّأمّل والصّفاء لا يعني بالضّرورة اكتشاف أيّ معنى للحياة؟ إنّه لا يقصد اكتشاف أيّ حقيقة من هذا النّوع بل هو مجرّد صلح مع الحياة.
من جهة أخرى نرى أن الأمر معقّد بطبيعته لدى غير المؤمنين، فمجرّد الإقرار بعدم وجود خالق هو ذاته إقرار بلا جدوى وبسخافة الحياة، فترى أحدهم لا يجد أيّ معنى في إعجابه بمنظر معيّن طالما أنّه آمن أنّه ليس إلّا تركيبة كيميائيّة سخيفة استقبلت توّا إشارات كهرومغناطيسيّة فسّرها عقله وترجمها على أنّها مجموعة أشجار وأزهار وعصافير، ولسبب ما اختار هذا العقل أن يكون الأمر جميلا أي أن خللا بسيطا ربّما كان سيجعل الأمر مقزّزا ومثيرا للاشمئزاز. إنّ هذا مثال واضح على عبثيّة وعدم جدوى السّؤال نفسه، لكنّنا في الوقت ذاته نجد الملحد المخلص المدرك لإلحاده جيّدا، مذعورا وغير مقتنع بأيّ جدوى لهذه الحياة؛ لأن الإنسان فطريّا لم يكن ليقتنع ويكتفي بالعيش في إطار هذه التّفصيلات اليوميّة المادّية المحيطة به، بل إنه دائما ما يمضي متطلّعا على تجاوز هذه الجزيئات نحو إدراك وجداني يفسّر له ماهية هذه التّجربة الإنسانيّة الواقعة، لذلك كتب أينشتاين مرّة أنّه لمعرفة الإجابة عن سؤال "ما معنى الحياة البشريّة؟" عليك أن تكون متديّنا.
حسن نحن كمؤمنين لدينا إجابات واضحة، فنحن هنا لأنّ الله وضعنا في امتحان وحالما ينتهي الأمر سنعود كلّنا إليه؛ هذا يقطع علينا نصف الطّريق لأنّه يولّد سؤالا آخر لدينا: "ما معنى هذا الامتحان؟".
إنّ هذا الامتحان بالنّسبة لنا هو الفرصة الوحيدة لتحقيق السّعادة والرّفعة والصّعود والرّقي في درجات الحياة دنيا وأخرى بعد عودتنا إلى الله.
التّأمّل في حركة النّاس صباح كلّ يوم وهم يتوجّهون إلى أعمالهم وحتى مساء كلّ يوم، يجعلنا ندرك أنّ هذا المعنى يختلف من شخص لآخر،
وعند الشّخص الواحد من فترة لفترة؛ وبالتّالي لا يمكن البحث عن معنى مجرّد للحياة ومطلق للحياة.
الحقيقة أنّ هذا المعنى يكمن في داخل كلّ فرد، في رسالته إلى الحياة التي تفرض عليه مهاما محدّدة عليه القيام بها لأنّه يحسن القيام بها دون غيره؛ وفي ذلك لا يمكن أن يحلّ شخص محلّ شخص آخر، كما أنّ حياته لا يمكن أن تتكرّر، ومن ثمّ تعتبر مهمّة أيّ شخص في الحياة مهمّة فريدة مثلما تعتبر فرصته الخاصّة في تحقيقها فريدة كذلك.
مارس عملك واجعله وسيلة لخدمة الحكمة والغاية المثلى التي خلقت من أجلها وتأمّل قوله تعالى: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا".
بهذا تتميّز حياتك بالاستقامة تجاه الرّب والإله فلا تشرك بعبادته أحدا ولا تخالف أمره في كلّ شؤونه، وتتحرّر من عبوديّتك تجاه مخلوقاته، وتستقسم تجاه من حولك مسخرا من أجلهم ومسخّرون من أجلك؛ وبهذا المنظور الفطريّ الرّبّاني لا نجد تناقضا بين سبيل المادّة واللامادّة، وبين سبيل الدّنيا والآخرة، كما وقع لدى الحضارات والأمم الأخرى.
في النّهاية، إنّ هذه الأفكار والمعاني لا يمكن التّوصّل إليها إلّا إذا كانت واقعا متحقّقا وتجربة معاشة، عندها فقط يتذوّقها الإنسان فيجد نفسه مغمورا ومحاطا وبالتّالي مؤمنا بها، ما يدفعه إلى مواصلة الحياة وعيشها
بكلّ أبعادها ليصل إلى السّعادة الأبديّة التي ينشدها الجميع بشغف وأمل.
لا يوجد تعليقات