نصف قرن على وفاة عميد الصحافة الجزائرية الشيخ إبراهيم بن عيسى حمدي أبو اليقضان
بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين المنزل كتابه هديا للخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على وخاتم النبيئين وسيد المرسلين محمد بن عبد الله الأمين، الذي يقول لشاعره حسان بن ثابت : «أَجِبْ عَنِّي، أَيَّدَكَ اللهُ بِرُوْحِ القُدُسِ»، وقد كان الشعر آنذاك بمكانة الصحافة اليوم.
أما بعد فالسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته، أتحدث اليوم عن ولي من أولياء الله الصالحين، في ذكرى نصف قرن على وفاته، أو على دفنه في التراب لأنه ما زال حيا، عن من نذر نفسه وجهده وجهاده ووقته لأجل إجابة أعداء الله عن دينه، ورد كيدهم وإدحاض شبههم، رغم ما أوتوا من قوة العدد والعتاد والسلطة، ثم رغم ما أصيب به من إعاقة في جسده، فكان لا يخشى في الله لومة لائم، فأصدر جرائده الثماني الواحدة تلو الأخرى، وكان بحق عميد الصحافة الجزائرية، وكانت جرائده توعوية تنويرية للأمة، رغم أن الأمر لم يكن سهلا، فقد كانت إدارتها وتأليفها في الجزائر، وطباعتها في تونس، وتوزيعها في شمال إفريقيا كله، وكلما أغلقوا له جريدة ومنعوها إلا وافتتح أخرى بلا سأم ولا ملل، رغم ما يتكبده من الخسائر عند إغلاق كل جريدة، إنه الشيخ العلامة إبراهيم بن عيسى حمدي أبو اليقظان المولود عام 1888م.
من العلماء الأعلام ومن أكبر أعلام الإصلاح في مزاب، والجزائر بل العالم الإسلامي كله، فقد تعدَّت شهرته الحدود الوطنية؛ إذ هو من الأعضاء الإداريين المؤسِّسين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. اُنتخب مرارًا في إدارتها، وله كرامات ورؤيا مع الشيخ ابن باديس وكان يقول عنه: «وأبو اليقظان إلى جانب ميزابيته التي يفاخر بها وله الحق، عربي يجاهد ويجالد في سبيل العروبة، ووطني يناضل ويقارع في سبيل الوطنية، ومسلم أخلص لله دينه يجعل الإسلام في الصف الأول من كل أعماله».
من العلماء الأعلام في القرارة بميزاب، تعدَّت شهرته الحدود الوطنية؛ بدأ مشواره العلمي بالكتَّاب في مسقط رأسه بالقرارة، حيث حفظ القرآن، واستظهره عند الحاج إبراهيم بن كاسي، ثم درس في معهدَيْ الشيخ الحاج عمر بن يحي، والشيخ الحاج إبراهيم الابريكي.
ونظرًا لظروفه العائلية والمادية، اُضطرَّ للسفر إلى مدينة باتنة للعمل في التجارة، ولكنَّ نفسَه التوَّاقة للعلم والمتفانية في حبِّ مصاحبة العلماء، جعلته يعود إلى مجالس العلم والعلماء، حيث انتقل إلى معهد قطب الأيمة الشيخ امحمد بن يوسف اطفيش، في بني يسجن بميزاب سنة 1325 هـ / 1907م، وكان من أبرز تلامذته؛ ورافقه في الدراسة بهذا المعهد كلٌّ من: الشيخ أبو إسحاق إبراهيم اطفيش، والشيخ سليمان الباروني النفوسي الليبي، والشيخ إبراهيم ابن بكير حفَّار... وغيرهم كثير.
ولمَّا ملأ وِطابه علمًا ومعرفة، تاقت نفسه إلى علم المنقول، فيمَّم شطر تونس، حيث جامِع الزيتونة العامر، وذلك سنة 1330 هـ / 1912 م، فانتسب للزيتونة ورأَسَ أوَّل بعثة علمية جزائرية ميزابية بتونس؛ ثمَّ عاد إلى الجزائر في بداية الحرب العالمية الأولى؛ وبعدها رأَسَ البعثة مرَّة أخرى من سنة 1917م إلى غاية 1925م.
وبعد هذا المشوار الطويل في التلقِّي والتعلُّم عاد إلى القرارة، وسعى إلى عصرنة معهد شيخه الحاج عمر بن يحي، وأنشأ سنة 1915م دارا للتعليم قصد الجمع بين المنهجين: التقليديِّ والمعاصر.
ثمَّ وقف إلى جانب الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض في بداية مراحل حركته الإصلاحية، وعمل على تطوير معهد الحياة.
وهو بالإضافة إلى هذا من الأعضاء الإداريين المؤسِّسين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. اُنتخب مرارًا في إدارة هذه الجمعية، إذ تولَّى نيابة أمانة المال.
ويعتبر شيخ الصحافة الجزائرية المجاهدة، أصدر ثماني جرائد وطنية إسلامية باللغة العربية، فيما بين 1345-1357هـ/1926-1938م ، أسقطها الاِستعمار الفرنسي واحدة تلو الأخرى، وهي على التوالي: وادي ميزاب، ميزاب، المغرب، النور، البستان، النبراس، الأمة، الفرقان.
والجدير بالذكر أنَّ جمعية العلماء المسلمين، قرَّرت في اجتماع لها سنة 1351هـ / 1933م، أن تطبع مناشيرها مستقلَّة وتوزِّعها على أربع صحف وطنية، منها جريدة "النور" اليقظانية، لتتَّصل بها الأمَّة من خلالها. كما أنَّ جريدة "الأمة" هي الجريدة الوحيدة التي تجرَّأت على الاحتجاج ضدَّ اعتقال المجموعة الأولى المطالبة بالاستقلال سنة 1937م؛ والمجموعة تتكوَّن من: مصالي الحاج، خليفة عمار، غرَّافة إبراهيم، مفدي زكرياء، الاَحول حسين.
من آثاره الفكرية تأليفه لحوالي ستين (60) عنوانًا في مختلف الفنون، بين كتاب وبحث ورسالة، منها:
1. ... «سُلَّم الاستقامة»، في الفقه بأجزائه السبعة، (مط).
2. ... «سليمان باشا الباروني»، في جزأين، (مط).
3. ... «ديوان أبي اليقظان»، في جزأين، طبع مرَّتين، الثانية بتحقيق د/محمد ناصر، ونشر جمعية التراث.
4. ... «تاريخ صحف الجزائر العربيَّة»، (مخ).
5. ... «ملحق سير الشماخي»، (مخ) في ثلاثة أجزاء.
6. ... «فتح نوافذ القرآن»، (مط) نشر جمعية التراث.
7. ... «تفسير الجزء الأوَّل»، الفاتحة والسور القصار من المرسلات إلى الخاتمة (مخ).
8. ... «أطوار التكوين والفناء في القرآن» (مخ).
9. ... «أضواء على بعض أمثال القرآن» (مط).
10. ... «صبر يوسف يتجلَّى في محنه»(مخ).
11. ... «سوَر من الكتاب المجيد»، في مقارنات بين بشائره للمؤمنين ونذره للكافرين (مخ)
12. ... «أشعَّة النور من سورة النور»(مخ).
13. ... «عناصر الفتح من سورة الفتح» (مخ).
14. ... «أقمار من سورة القمر» (مخ).
15. ... «أفذاذ الإباضية»، (مخ).
16. ... «فذَّات الإباضيات»، (مخ).
17. ... تراجم لشخصيات وأعلام إباضية منها: «أبو عبد الله محمد بن بكر»، «أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني»، «أبو عمَّار عبد الكافي»، «محمَّد الثميني كما أعرفه»...
18. ... «الإباضية في شمال إفريقيا»،(مخ).
19. ... «خلاصة تاريخ الإباضية»،(مخ).
20. ... «عنوان الدراية فيما يتعلَّق بأحوال القرارة»، (مخ) ألَّفه سنة 1334هـ، وهو في تاريخ القرارة.
21. ... «إرشاد الحائرين»، في الردِّ على بعض الأقاويل والتهم التي قيلت في البعثة العلميَّة الميزابية إلى تونس، والتي كان يرأسها.
22. ... «أهدافي العليا بالعمل في هذه الحياة» (مخ).
23. ... «الإسلام ونظام المساجد في وادي ميزاب»، (مخ).
24. ... «وجه الشبه بين النخلة والإنسان»، (مخ).
25. ... «ملخَّص تاريخ الجزائر»،(مخ).
26. ... «نعيم المرأة الميزابية في وادي ميزاب» (مخ).
27. ... «سبيل المؤمن البصير إلى الله»، (مط).
28. ... بالإضافة إلى «مذكِّراته» الخاصَّة، التي كان يسجِّل فيها كلَّ شاردة وواردة من الحياة العامة، ومسيرته الذاتية في تفصيل عجيب.
وفي كتابه «ملحق السير» ترجم لعلماء الإباضية بالمغرب الإسلامي مدَّة خمسة قرون وزيادة، ابتداءً ممَّا انتهى إليه الشيخ أبو العباس أحمد الشماخي ( ت: 928 هـ / 1521م )، في سيره. وقد اعتمد عليه كثيرًا الشيخ محمد علي دبوز في كتابيه «نهضة الجزائر الحديثة» و«أعلام الإصلاح». كما اعتمدته جمعية التراث في إعداد هذا المعجم؛ واعتمدت تراجمه الأخرى.
أصيب بالشلل النصفي سنة 1376 هـ / 1957 م ، ولكن أعماله لم تشلَّ، ونشاطه الثقافي والاجتماعي والتربوي ظلَّ دائمًا مستمرًّا، إلى أن وافته المنية بالقرارة يوم 30 مارس 1973 م، يوافقه 26 صفر 1393 هـ.
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ورزق الأمة من يحمل الأمانة بعده ويكون خلفا له.
ونورد من كتاب الشيخ فرصوص: أبو اليقظان إبراهيم كما عرفته قصتين، إحداهما تدل على كراماته وعلاقته بالشيخ ابن باديس، وأخراهما تدل على شجاعته وصلابته في الحق وثباته.
القصة الأولى: رؤيا الشيخ أبي اليقظان عن ابن باديس:
يحكي الشيخ فرصوص يقول: كما كانت لأرواحهما [يقصد أبا اليقظان وابن باديس] لقاءات عديدة من خلال الرؤى الصالحة التي كان الشيخ أبو اليقظان يراها عن صديقه . وهذه إحدى الرؤى التي رآها، ولنا فيها عبرة :
أملى علي الشيخ أبو اليقظان رحمه الله ما يلي :
على الساعة الرابعة والنصف من ليلة الاثنين 30 نوفمبر 1964 م، حضر إلي الشيخ عبد الحميد بن باديس وأملى علي هذه الرؤيا :
- لقد أعجبت من توحيد كلمة المسلمين في الصعيد الجزائري تحت راية الاستقلال، وعلى قاعدة أنت أنت وأنا أنا ، وعلى منهاج القرآن والسنة ، وبلسان العربية المضرية.
إن إيقاف الأستاذ بيوض أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لخطأ متعمد، وضلال مضل، فيجب على القادة المسؤولين أن يبادروا إلى إصلاح خطئهم في أقرب وقت، وأن يحذروا من الوقوع في أمثاله من الأخطاء.
إن للاستعمار والشيطان لأضاحيك يتربصونها بنا، وأنت يا أبا اليقظان لازمت السكوت في فراشك سنين طويلة وقلمك يقظان - لصريره وقع المدافع - وإن له لآذانا كثيرة تسمع، وقلوبا عظيمة تعي، فانطلق وأسمعهم صوتك الحق.
إن تقارير بعضهم قيء الشيطان يجرعونها في أوساط المسلمين لإفساد العلاقات فيما بينهم فلتحذروهم.
إن القوم راموا أن يجرفوا الجزائر والعروبة والإسلام إلى البحر الأسود، فقم يا أبا اليقظان واصدع بالحق، ولا تستسلم للكسل والخوف، والله معك والسلام . «عبد الحميد»
القصة الثانية: موقف الشيخ أبي اليقظان مع الخديوي عباس حلمي الثاني:
اعتاد الخديوي عباس المخلوع قضاء عطلته الصيفية في أحد شطوط الجزائر، فقدم في أواخر العشرينيات على يخته المسمى (نعمة الله)، فاستقبله الوالي العام استقبال الملوك بميناء الجزائر، وكان قد طلب من كل الفئات الجزائرية المختلفة الموجودة في الجزائر العاصمة أن تعين ممثلا لها يقوم بتقديم رمز أو شعار يمثل كل طائفة، كهدية للخديوي تقديرا واحتراما له. فاتفقت الجماعة الميزابية على إيفاد الشيخ أبي اليقظان عن نفسها، فانطلق وهو يرتدي اللباس الرسمي لهيئة العزابة (الحولي) حاملا معه العدد الأول من جريدة وادي ميزاب. فتقدم الممثلون بهدايا متنوعة، منحنين أمامه، حتى إذا كان دور الشيخ تقدم وسلم عليه بتحية الإسلام، مصافحا إياه دون انحناء، وقدم له الجريدة كهدية، فانتهره الحاكم العسكري قائلا:
- لِمَ لَمْ تنحن كما فعل الآخرون ؟
فقال الشيخ: أنا مسلم جزائري إباضي - ومما يمتاز به الإباضية - أن لا حكم إلا لله، وَلَا سُجود إِلَّا لِلَّهِ - .
ثم سأله الخديوي: وما هذه الجريدة ؟
فقال: هي لسان الأمة الميزابية التي قطع لسانها، فصارت تصرخ بها.
فقال الخديوي: وأين تطبع هذه الجريدة ؟
فقال: الإدارة في الجزائر، والطباعة في تونس، والتوزيع في شمال إفريقيا.
فردد الخديوي في تعجب: الإدارة في الجزائر، والطباعة في تونس، والتوزيع في شمال إفريقيا، ما شاء الله، ما شاء الله ، ما شاء الله.
فقدم إليه علبة تبغ أمريكية من النوع الرفيع كهدية له، لكن الشيخ لم يمد يده ليتسلمها، فقال -ويد الخديوي ممدودة-: نحن معاشر الإباضية نحرم كل مخدر ومسكر، وما أسكر كثيره فقليله حرام.
فازداد الخديوي إعجابا بشجاعته وجرأته.
وعندئذ تدخل الحاكم العسكري مغتاظا قائلا: وكيف تحسبنا وترانا أمامك ؟
فقال رحمه الله : أراكم مثل القطط.
ثم وجه الخديوي كلامه للحاكم قائلا: كم عندكم من نوع هذا الرجل ؟
فقال الحاكم: كنا نسمع قبله بشخص يدعى محمد بن يوسف اطفيش، كان يواجه بكل صلابة وشجاعة وجرأة الحكومة الفرنسية.
فقال الشيخ أبو اليقظان: إنه شيخي وأستاذي، وعليه تخرجت وتتلمذت.
ثم غادر الحفل إلى حال سبيله.
وللقارئ الكريم أن يمعن النظر، ويتوقف مليا أمام هذا الموقف الجريء وهذه الجرأة الثابتة، وهو بين أنياب الطغيان والطغاة يصارع في مثل ذلك الوقت العصيب.
المصادر: معجم أعلام الإباضية قسم المغرب، وأبو اليقظان إبراهيم كما عرفته
لا يوجد تعليقات