النهّاية بداية أخرى
في أحد أيام سنة ألفين وثلاثة وعشرين ميلاديّا تلك السّنة التي شهدت من الأحداث والمآسي ما لم تشهدها سنة أخرى، غيّرت مجرى التّاريخ وكذا نظرتنا للعالم، ومن بين أحداثها جميعا، اليوم التّاريخي العظيم؛ السّابع من أكتوبر، حيث شهدت فلسطين وكلّ من على وجه الأرض "طوفان الأقصى" وبالضبط في مدينة غزّة، غزة العزّة والصّمود، التي صارت أرضها منذ ذلك اليوم تحت وابل من صواريخ وقذائف العدوّ الصّهيوني المحتلّ، وصارت سمائها صاخبةً بهدير المروحيات العسكرية التي أمطرتها انفجارات عديدة لم يسلم منها الكبير ولا الصّغير، ولا الحيوان ولا النّبات.
في بيت من بيوت القطاع في "مخيم جباليا" حيث يغشى أهلها الرعب والخوف ينتظرون ساعة الموت المحتمة عليهم لا تتوقّف ألسنتهم عن ذكر اللّه والتّضرّع إليه، كاد يقضى على يوسف الصغير من الجوع الشّديد حيث مرّت عليه أيام لم يذق فيها شيئا من طعام يسدّ به جوعه.
-"ماما أنا جوعان ... يمّا بدي آكل"
-"متخافش حبيبي، رح أعملك أفضل قلاية بندورة، زي اللي بتحبها"
كان هذا ردّ أمه التي كاد ينفطر قلبها وهي تستمع إلى نواح ابنها، فلم تجد سبيلا إلّا بالذهاب إلى جارتها "أم محمود"، علّها تجد لديها ضالتها من بضع حبّات طماطم تسكت بها جوع يوسف؛ ففي أيام المحنة والشّدة يكون الشّعب الفلسطيني جسدًا واحدًا كلّ يساعد أخاه الآخر بما يملك من غالٍ ونفيس للتّخفيف من وطأة الحرب ...
دقّت الباب عشرات المرّات وكلّها خوف على جارتها من فقدانها هي الأخرى، بعد أن فقدت أحبتّها وبعضا من أهلها، وبعد انتظارها طويلا يئست واستسلمت لحدسها وسالت على وجنتيها عبرتين حارّتين تأسّفًا على مصير جارتها الحبيبة... اضطرت أم يوسف للتّوجه إلى منزل "آل مقداد" على الطرّف الآخر من الشّارع بحثاً عن الطّماطم عند صديقتها، داعيةً الله في سِرّها أن تعثر على مُرادها لترسُم الإبتسامة على وجه يوسف من جديد.
-"كيفك يمّا وكيف أولادك، إن شاء الله ما وصللكم القصف ...؟"
-"واللّه منيحة زي مابتشوفي، اللّه يسترها علينا بس"
حمدت الله على سلامتها وسألتها عن جارتها "أم محمود" ومصيرها حتى يطمئنّ فؤادها عليها ...
-"المسكينة خافت على ولادها من القصف، فنزحت للجنوب ... اللّه يحميها ويحمينا "
-"ألف شكر وحمد لك ياربّ...، بدي أطلب منك شغلة... "
سألت أم يوسف أم مقداد بعض الطّماطم فالنّاسُ في الحربِ لا تملكُ ترفَ الأحاديث المطوّلة، حيثُ بوسعِ كلّ ثانيةٍ أن تكونَ الأخيرة. أخذت الطّماطم وودّعت "أم مقدد"، وما كادت تخطو عتبة الباب حتى ...بووووم ... صوت انفجار شديد...
شعرت بالأرض تهتز تحت قدميها وصداع شديدٍ يجتاح رأسها...
"كل ّما أذكرهُ أنّ سحابةً سوداء حجبت كلّ شيءٍ، لقد أصبتُ بالصّمم المؤقت بسبب قوّةِ الانفجار، لكنّ شيئا واحداً كان يشغلُ بالي، هل يوسف بخير أم لا؟"
ركضت نحوَ الشّارع وهي تصارعُ لأخذِ نفسٍ بسبب الأتربة والدّخان... زحامٌ كبير في مكان القصف، والكلّ يصرخ ويساعدُ المسعفين لانتشال الضحايا،" وكأنها أهوالُ القيامة"
-" شفتو يوسف؟ فيكم حدا شاف ولد صغير هون؟" تسأل الناس هناك بكل قلق وخوف ...
وفي غمرة تنقلّها هنا وهناك، تذكّرت أبو يوسف، وهو يعملُ في المستشفى طبيبا، لم يعد للمنزلِ من بداية الحرب. ركبت في سيارة الإسعاف متوجهة نحو المشفى...
-" كل ما أذكره آخر لحظةٍ قبل إغلاق باب السيارة؛ هو البابُ الذي اغلقتهُ على يوسفْ ولم يعد موجودا...، لقد كانت خائفة عليه من أخطارِ الأرض بغريزة الأم الفطرية فأوصدت الباب، كيفَ لأم أن توصدَ الخطرَ القادم من السمّاء؟ حتى الخوفُ في الحروبِ يصيرُ مختلفا..."
في الطّابق الثاني من مجمّع الشّفاء صادفت أم الصّغير يوسف والده، ببدلتهِ الخضراء، مرهقاً من أيامِ الحربِ ودوامِ العمل الذي لا يتوقّف. لقد وهب حياتهُ في سبيل لله، وفي سبيل وطنه الذي يفديه بروحه، دمه وماله وفي سبيل أبناء شعبه. لقد كان دوما يقدّم تضحيات نبيلة في عمله كطبيب لكن اليوم، صارت الحرب تأخذ منهم أكثر من أي وقت مضى...
-"يوسف ...يوسف..."لم أنطق بأكثر من الاسم. لقد فهم سبب وجودي هنا، فالنّاسُ لا يأتون للمشفى للتنزّه..."
بدأت رحلة البحث عن يوسف "يوسف 7 سنين، شعره كيرلي، وأبيضاني وحلو "هكذا كانت تكرر جملتها على كل من تقابلهم من أطباء ومصابين وصحفيين ينقلون الحدث واحدا بواحد على المنصات الإخبارية ليرى العالم أجمع مدى بشاعة فظائع ومجازر المحتل الصّهيوني الغاشم ويكشفون الوجه الآخر له ...
-"بعدَ عدّة أدوارٍ والبحث في عدّة غرف تعبتُ، حاولتْ قدماي رفعي لكنّ خوفي كانَ أثقل، فارتميتُ على أقرب مقعد."
بينما كانت تستريح اندلعت مشاعر القلق والفقدان في قلبها كانت تتساءل عمّا إذا كان فلذة كبدها بخير وإن كان سيعود يوما ما إلى حضنها الدافئ. كان بمثابةِ النّعمة في حياتها، جميلاً كالقمر، عوّض وجودهُ كلّ حرمان، فسمّيتهُ يوسف، ربّتهُ وكانت تتنفسُ به. كلّ يومٍ من حياتها كان سعادةً جديد وهي ترى يوسف يكبرُ بين يديها. وها قد صار يوسفُ يلعبُ ويتكلم، وحانَ وقتُ دخولهِ للمدرسة هذه السنة، لقدْ كان ذلك صعباً عليها، كيفَ سيكون بوسعها أن تفارقهُ لثمانِ ساعاتٍ كل يوم... لكنها اليوم تفارقه للأبد...
في الوقت نفسه كان أبو يوسف يبحث في كلّ ركن وزاويّة من المشفى، يسأل كل من يصادفه عن ابنه يوسف، لكن الصّدمة والألم طالت الجميع فكلّ مشغول بنفسه المصاب؛ بوالدٍ استشهد، زوجٍ مأسور أو ابنٍ مفقودٍ تحت الأنقاض ...
في ليلة ذلك اليوم كانت أم يوسف تجرّ قدميها جرا ّ في باحة المشفى فرارا من أجواءها المشحونة بآهات وصرخات الجرحى والمصابين أقرباءهم علّها تستنشق بعضا من الهواء النقيّ. لكن أنّى لها ذلك فطائرات العدو لا تزال تنثر سمومها في كل مكان من غزّة التّي صارت مقبرة لغزاتها الشّهداء بأكفانهم البيضاء لا تكاد تخلو الطّرق منهم...
"كان الظلام يعمّ المكان بعد أن قطع الصّهاينة عنا الكهرباء وكل أساسيّات العيش الكريم، بصرت رجالا وأطفالا يفترشون الأرض تكاد أطرافهم تتجمد من شدة البرد، تذكّرت حينها من يقال لهم إخواننا العرب وإخواننا المسلمين أين هم من كلّ هذا، لماذا نموت ولا يحرك ضمير أحدهم شيئا..."
بينما كانت شاردة في خواطرها إذ ينتفض قلبها لرؤية صبيّ ممسكا يد امرأة كبيرة في السن يشبه إلى حد كبير ابنها ملامحه إلا أن ملابسه كانت ممزقة وكان وجهه مغطى بالأتربة...
-"أتراني أحلم يا ترى؟"
توجهت نحو المرأة متوجسةً، يكاد عقلها لا يصدّق ما تراه عينها
-"شفتي يوسف، طفل صغير، وأبيضاني وحلو..." سألت المرأة بصوت مرتجف
أخذت المرأة نفسا عميقا وقالت: "أيوه ... يوسف هذا الطفل الصغير اللي لقيته بببكي، تحيط به أكوام الحطام من كل مكان وحسّيت به يبحث عن الأمان...."
ما كادت العجوز تنهي كلامها إلا وترتمي الأم في أحضان ابنها تعانقه بشدّة، وبكل لهفة وشوق كادت تقتلع معها أطرافه، تقبّل وجنتيه، تتلمّس شعراته الكيرلي الناعمة، وتتشمّم رائحته النديّة، ودموعها أنهار جاريّة لا تلبث تتوقف حتى تعود من جديد ...
-"يوسف ... يوسف حبيبي، أنا هنا، أنا هنا..." انتابها مزيج من المشاعر المختلطة وسعادة غامرة وكأنما حيزت لها الدنيا بما فيها
-"الحمد لله... الحمد لله ... شكرا لك يارب"
وبينما كانت أم يوسف تحتضن ابنها بفرح وحمد لا يوصف، والمرأة تراقبها بتأثّر شديد، إذ بحركة خفيفة في ظهره ... أمسكت يده فإذا هو رسم صغير كان يحمله...
قالت العجوز:" هاي الرّسمة الحلوة رسمها ابنك الشطّور لمّا أخذته لملجأ الأطفال. "
ألقت الأم نظرة على الورقة فأدركت على الفور أن ما رسمه ابنها كان آخر لحظة جمعتها به قبل خروجها من البيت وقد كادت تكون الأخيرة... رسم أمه وهي تحمل صينيّة بندورة ...
" هاي الرسمة لك يما" قال يوسف بابتسامة
أطلقت العنان لضحكتها الخفيفة، وحضنت ابنها إليها حضنًا أنساها كلّ ما تمرّ به من أوقات مؤلمة، تمنّت ألّا ينتهي إلى الأبد، ولا ينتزعه منها أحد، فكم هي قصيرة هاته اللحظة السعيدة في وقت مليء بالمحن، ولايزال قلبها يعتصر ألماً وينبض قلقاً في هاته الفترة التي كثير من الأحباب انتقلوا إلى رحمة اللّه فيها، وكثير منهم جُرحوا؛ جرحتهم الأيّام والظروف، وجرحهم من كانوا ينتظرون منه النّصرة والإغاثة، فلم يجدوها سوى من أبناء وطنهم الأبيّ ...
فتحت أم يوسف عينيها جرّاء أشعة الشّمس التّي تسلّلت إليها من بين أخصان شجرة الزيتون. ابتسمت وهي تسترجع شريط ذكريات عصيبةٍ مرّت عليها وأبناء شعبها، ذكريات جعلتهم يكبرون فيها ألف مرة من أي وقتٍ مضى، وها هي اليوم أمام المسجد الأقصى الشّريف جالسة على تراب وطنها ترقب ابنها عن كثب يلعب الكرة رفقة بعضٍ من أقرانه في ساحة المسجد وهو يكبر أمام عينيها يوماً بعد يوم وقد صدق وعد الله بصرتهم على كيد الظالمين بعد صبرٍ وكفاح؛ بعد أن جاهد رجال المقاومة ببسالة واستماتة، وأيّدهم الله بجنوده وهم فئةٌ قليلة، وبعد أن استشهد منهم عدد كثير، وبعد أن تخلّت عنهم دول العالم ولمّا يدركوا أن الله واحد معهم ...
لا يوجد تعليقات